أمّي في الواتساب..
لن أعود للتذكير لماذا قاطعت أمي سنوات منذ 2015، حاولت أن أجعلها تتعقل وتعدل من زواية انحيازها المنفرجة أكثر من اللازم اتجاه أختي المتطرفة التي اعتدت عليّ جسديا بمساعدة زوجها، في عقر بيتي وأمام أنظار الجيران رغم محاولة بعضهم فك رقبتي من بين يديها المفترستين، بدون جدوى، فكان الحل هو حضور الدرك بإلحاح من طرف صديقتي ليلى، وباقي الأحداث، عرفت بالتفاصيل على صفحات الجرائد ومنصات المواقع الاجتماعية والتلفزة ووصلت لخارج الوطن..

هذه المقدمة البئيسة ليست هي الغرض من كتابتي اليوم، لكنها توطئة لابد منها، رغم كآبتها، كضرورة ألم الشوكة في الجلد ليتسرب الدواء عبر الشرايين..

بعد مقاطعة أمي، جاءت فترة انهياري الأول، أسقطتُ كل مقاومتي، تناسيت جراحي، أسكتت رياح غضبي، جئت من زاكورة إلى الرباط سنة 2017، اتصلت بها، دعوتها لعشاء بأحد مطاعم وسط المدينة، عانقتها، أخذنا صورا بمنزل إحدى الصديقات، وعند مغادرتها حدثتني قائلة، بنبرة قاتلة آمرة وجافة :
– شوفي أبنتي، لابغيتيني نبقى أمّك، فوتي عليك الكتابة فالفايسبوك وخصوصا على اختك وعائلتك وبّاك، وخلّي اختك فالتيقار …
أجبتها، وقلبي يتهشم كمنزل آيل للسقوط:
-الآن، تأكدت بدون ذرة شك، ما الذي عليّ فعله يا أمي، وداعا ..

لقد تأكدتُ بأني فقدتُ أمي للأبد، واعتبرتها ماتت كما مات أبي وأخي، غير أن موتها رمزي وموتهما مادي جسدي، حدثتُ نفسي أعزيها:
-لأكُن ابنتها الثانية التي تفقدها بعد ابنها، ما الذي سيحدث، ها هي قد تناست حزنها عليه، ولم تحزن عليّ وهي ترى دمائي سائلة على وجهي وملابسي، وشعري منزوع بجلده من رأسي، وجسمي كله كدمات وجراح وآثار بارزة لأسنان أختي التي عضتني، كما تعض الذئاب الجائعة فرائسها وسط البراري.

ذهبت إلى نهر حياتي أتخبط في تياراته، وجرت تحت جسره مياه كثيرة، بين الرباط وأكدز وزاكورة وبني ملال..
حتى رست بي سفينة وجودي الأهوج العاصف، بكندا، تاركة كل شيء ورائي، أمي التي ثكلتني وتيتمتُ فيها ونحن معا بالحياة، ابنتي وحفيدتي وإخوتي المحبون منهم والكارهون، صديقاتي البلوريات والأقل إشعاعا، أصدقائي الطيبون وعشاقي الكثر، تركت أحلامي ومخططاتي الغارقة في المثالية وآمالا كثيرة بقيت معلقة على أشجار خروب وزيتون ورمان يابس فوق قمم الأطلس المتوسط..

جئت هنا، إلى بلاد أخرى، أطفيء لهيب الظلم والمعاناة في أنهارها الضخمة وثلوجها الناصعة وأعلق آمالا جديدة على أشجار قيقبها ولبلابها المزركشة..

إلا أنه كان لوباء كورونا رأي آخر، أغرق العالم وكندا معه، بعد حلولي بها، بأربعة أشهر فقط، في دوامة مرعبة ومهولة من الخوف، عزلت البشر عن أقرب أقربائه، وطوحت بكل تواصل عبر السفر وحركة التنقل التي تجعل من الإنسان كائنا حرّا بامتياز.

كنت حينها، لم ألج تجربة الشغل بعد، سوى بعض التطوع الذي أوقفته قبل حلول الوباء.
بدأت أحس وكأنني في مصيدة، أتابع الاخبار، أخبار المغرب طبعا، أتخيل أن الناس سيموتون بالآلاف وأني لن أعانق من أحبهم أو أودعهم أو أخفف من معاناتهم.

لم أجد برفقتي أحدًا، أقاسمه مخاوفي وهواجسي ورعبي من أن يلحق بالمغرب مكروه ويموت كل من أحبهم وحتى من أساءوا لي، لأني كنت أريدهم أحياء، ليشهدوا على انتصاري وخلاصي..

هنا، قررتُ أن أخرج أمي من تابوث النسيان والتجاهل الذي وضعتها فيه لأجنب نفسي وجع الحسرة،
ركبت رقمها الذي لم يفارق هاتفي، دخلت الواتساب، لأن ابنتي أخبرتني أنها تستعمله. بعثت لها رسالة صوتية، تختلط فيها الدموع بالكلمات، والاعتذار بالسؤال وكنت كمن يخاطب حبيبا بعد طول جفاء، متناسيا مامضى من خصام.

جاءني رد أمي سريعا، برسالة صوتية، أعقبتها مكالمات بالصوت والصورة احيانا، فيديوهات من اليوتيوب وتيكتوك وانستغرام..
كنت أضحك أحيانا، وأنا أرى كيف استطاعت أمي التي لم تدخل مدرسة قط، سوى بعض دروس محو الأمية أن تتمكن من هذه الأدوات الرقمية العجيبة،..
لم تنقطع مكالماتنا وحديثنا وتواصلنا، رغم مايطفو على السطح أحيانا من مرارة الوضع..
فشكرا للواتساب الذي أنقذ حبي لأمي من موت مفترض وأخرجه من قبر النسيان…

The post مينة بوشكيوة: الواتساب أنقذ حبي لأمي من موت مفترض وأخرجه من قبر النسيان appeared first on فبراير.كوم | موقع مغربي إخباري شامل يتجدد على مدار الساعة.

Read More

التصنيفات: World

0 تعليق

اترك تعليقاً

عنصر نائب للصورة الرمزية (Avatar)

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.